العلاقات الخليجية الروسية- الإرادة السياسية والتحديات التنفيذية

إن العلاقات الثنائية بين الدول تكتسب أهمية بالغة وتتفوق على العلاقات الجماعية، وذلك لأنها تمتاز بالتركيز على المتطلبات الأحادية لكل دولة، والتي قد تتأثر سلبًا في سياق التعاون الجماعي مع أطراف أخرى. وقد تجلى هذا الأمر في العديد من التجارب السابقة، ويمكننا أن نتذكر القمم الثلاث التي استضافتها الرياض، والتي جمعت الرئيس ترامب مع المملكة العربية السعودية على الصعيد الثنائي، ثم مع دول مجلس التعاون الخليجي، وأخيرًا مع دول منظمة التعاون الإسلامي. كان الهدف من هذه القمم هو تعزيز التعاون الشامل في مختلف الملفات، بما في ذلك "مشروع صفقة القرن". ومع ذلك، فقد باءت المحاولة بالفشل حتى في تحقيق التنسيق المشترك، وذلك بسبب التناقضات في المصالح والاختلافات في ترتيب الأولويات بين كل دولة وأخرى في سياق مصالحها مع الطرف الخارجي.
وقد ينطبق هذا السيناريو أيضًا على المشروع أو التوجه الروسي نحو منطقة الخليج العربي، والذي يتم تحت مظلة "الحوار الاستراتيجي الروسي الخليجي" في دوراته الخمس السابقة. يهدف هذا الحوار إلى تقييم إمكانية تحقيق النجاح في هذه المساعي، والتحديات التي تواجه تحقيق هذا المشروع المهم "إستراتيجيًا". على الرغم من وجود توافقات وتطابقات عميقة على المستوى الخليجي، وأكثر من أربعة عقود من التنسيق والتعاون الجماعي الخليجي، إلا أن مساحة التناقضات "خليجيًا" لا تزال واسعة في سياق التعاون الجماعي مع طرف خارجي، سواء كان ذلك روسيا أو الولايات المتحدة.
منذ نوفمبر/تشرين الثاني 2011 وحتى يونيو/حزيران 2022، شهدنا أحد عشر عامًا من العلاقات "الخليجية الروسية" في خضم ملفات أمنية وسياسية واقتصادية حيوية في المحيط الخليجي. خلال هذه الفترة، تم عقد سلسلة من الاجتماعات بين الجانبين، وتم الاتفاق فيها على استمرار التعاون في مختلف القضايا الإقليمية والدولية ذات الاهتمام المشترك، وتعزيز التعاون الثنائي في المجالات الاقتصادية والاجتماعية. ولكن هل هذا القدر من التعاون كافٍ لتحقيق الطموحات المرجوة؟!
وفقًا للموقع الرسمي للأمانة العامة لمجلس التعاون لدول الخليج العربية، فقد تم عقد خمسة اجتماعات وزارية مشتركة للحوار الاستراتيجي بين مجلس التعاون وروسيا الاتحادية. عُقد الاجتماع الأول في مدينة أبو ظبي في الأول من نوفمبر/تشرين الثاني 2011، وشهد التوقيع على مذكرة تفاهم تنظم آليات الحوار الاستراتيجي بينهما، والتي شملت المجالات التالية:
- الحوار الاستراتيجي والتنسيق السياسي المتبادل.
- التعاون الاقتصادي والتجاري والاستثماري المثمر.
- الطاقة المتجددة، والتعليم المتميز، والبحث العلمي المتقدم، والبيئة المستدامة، والصحة العامة.
وقد كلف الوزراء كبار المسؤولين من كلا الجانبين بوضع خطة عمل مشتركة للأعوام 2013-2015، تتضمن التعاون والتشاور في المجالات السياسية والأوضاع الإقليمية والدولية ذات الاهتمام المشترك، والمجالات التجارية والاستثمارية والسياحية المزدهرة، والطاقة المستدامة، وحماية البيئة، وتعزيز الصحة، والثقافة الغنية، والرياضة المتنوعة، والتعليم المتميز، والبحث العلمي الرائد.
عُقد الاجتماع الوزاري المشترك الرابع للحوار الاستراتيجي بين مجلس التعاون لدول الخليج العربية وروسيا الاتحادية في موسكو يوم 26 مايو/أيار 2016، وتم الاتفاق على مواصلة التعاون في مختلف القضايا الإقليمية والدولية ذات الاهتمام المتبادل، وتعزيز التعاون الثنائي في المجالات الاقتصادية والاجتماعية. ووجه الوزراء باستكمال إعداد خطة العمل المشترك للحوار الاستراتيجي بين مجلس التعاون وروسيا الاتحادية.
تم الاتفاق على عقد الاجتماع الوزاري المشترك الخامس للحوار الاستراتيجي خلال العام 2017 في مملكة البحرين، ولكن يبدو أن ذلك لم يتم لعدة أسباب، لعل من أبرزها الأزمة الخليجية وتداعيات جائحة كورونا. وقد عُقد الاجتماع الوزاري المشترك الخامس للحوار الاستراتيجي بين مجلس التعاون الخليجي وروسيا في الأول من يونيو/حزيران 2022 بمدينة الرياض، بحضور وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف وأصحاب السمو والمعالي وزراء دول المجلس.
منذ نوفمبر/تشرين الثاني 2011 وحتى يونيو/حزيران 2022، مضت أحد عشرة سنة من العلاقات "الخليجية الروسية" في خضم ملفات أمنية وسياسية واقتصادية ذات أهمية قصوى في المحيط الخليجي. خلال هذه الحقبة الزمنية، شهدنا سلسلة من الاجتماعات بين الطرفين، وتم التوافق خلالها على استمرار التعاون في مختلف القضايا الإقليمية والدولية التي تثير اهتمامًا مشتركًا، وتعزيز التعاون الثنائي في المجالات الاقتصادية والاجتماعية المتنوعة. ولكن يبقى السؤال المطروح: هل هذا المستوى من التعاون كافٍ لتحقيق الأهداف المنشودة؟!
ويبدو أن اللقاءات لم تتجاوز حدود قاعات الاجتماعات لتنطلق إلى آفاق العمل الفعلي، وإن كان هناك بعض التقدم، فإنه لا يرقى إلى مستوى تطلعات الجانبين، ولا يعكس العزم القوي للقيادات العليا والإرادة الحقيقية في التقارب، ولا يتناسب مع حجم التحديات المشتركة. ويكشف ذلك من جانب آخر عن قصور في توفير الآليات الفعالة لتحقيق تلك الإرادات. وهنا أتذكر تعليق الزميل أندريه بكلانوف، السفير الأسبق لروسيا في المملكة العربية السعودية، حول تباطؤ العمل "الخليجي الروسي"، حيث قال: "إن الإدارات التنفيذية لدى الجانبين لا ترقى إلى مستوى إرادة قادة البلدين في سياق العمل المشترك". قد تكون هناك اتفاقيات أو تفاهمات تم تطبيقها على أرض الواقع، ولكن لم نشهد لها تأثيرًا حقيقيًا ملموسًا.
لذا، أصبح أصحاب الاختصاص أو المهتمون بمثابة "مسترق السمع" في تتبع المعلومة، وهذا يعود إلى عدم دعوة مراكز الدراسات والبحوث للمشاركة في مثل هذه الاجتماعات، التي هي في أمس الحاجة إلى مشاركة عقول ناقدة، وليس مجرد كاميرات إعلامية ناقلة للأخبار.
يمكن تحليل هذا المشهد الذي يجمع بين الإرادة العليا الجادة والفتور التنفيذي، وفقًا للتحليل التالي:
- وجود قوى جذب وتأثير "لدى الجانبين" خارج الدائرة "الخليجية الروسية"، تفوق في قوتها دوافع الانجذاب للعمق الثنائي بينهما.
- التكوين البنيوي "الخليجي" للإدارات الاستشارية والتنفيذية، والذي يتميز بوعي معرفي وتنظيمي "غربي" راسخ، نظرًا للتعليم والعلاقات والمصالح "الخليجية الغربية" الواسعة "موضوعيًا وزمنيًا"، مما يضعف من مساحة الفهم والتفاعل "الخليجي الروسي"، وتبرز بسببه صعوبات "حقيقية أو مضخمة" في مجال التواصل والإقناع المتبادل.
- انعزال المؤسسات التنفيذية "في وزارات خارجية دول المجلس، والأمانة العامة للمجلس" عن استخدام الأدوات والقوى الناعمة المساندة لقرارات المصالح الخليجية في الفضاء الروسي. إذ لا يزال عدد من "صناع القرار الخليجي" ينظرون إلى روسيا من منظور غربي، نظرًا لتأثير التدفق الإعلامي الغربي المباشر، أو من خلال وسائل إعلام خليجية ذات رؤى ومصادر غربية، مما يفوت الكثير من إدراك المساحة المشتركة "خليجيًا وروسيًا" لتكون خطًا موازيًا لاتجاهات عمل مصالحنا الدولية الاستراتيجية.
- غياب "مراكز البحوث والدراسات" الخليجية عن الاجتماعات التحضيرية وحتى التشاورية بين الجانبين، مما يقصر العمل على "الموظفين الرسميين"، وهنا يتم تعطيل عقول استشارية "مؤسسية وفردية خليجية" قد تكون فاعلة وداعمة.
أما من الجانب الروسي، فيمكن ملاحظة عاملين مؤثرين:
- النظرة التقليدية لدى النخب الروسية بأن دول الخليج تابعة للمعسكر الغربي ومقيدة بمجموعة من الالتزامات الاستراتيجية، التي تحد من التفاعل مع روسيا، ولعل "الموقف الخليجي من أزمة أوكرانيا" قد فكك جوانب من هذه النظرة غير الدقيقة.
- غياب النخب الروسية "المستعربة" ذات الوعي المعرفي العربي العميق، وخلو الساحة الروسية "إلى حد كبير" من تلك القيادات العلمية المؤثرة، حيث فقدت الساحة الروسية شخصيات بارزة مثل يفجيني بريماكوف، مرورًا بفلاديمير دنتسوف، وانتهاءً بجريجوري كوساتش وغيرهم الكثير، ودخل الاستعراب الروسي مرحلة "الشيخوخة"، إذ توقفت العجلة الاستعرابية الروسية العريقة عن إنتاج القيادات العلمية المؤثرة "مع التقدير لجهود معهد الاستشراق بأكاديمية العلوم الروسية بقيادة المخضرم فيتالي ناؤومكين"، فالمرحلة الروسية العربية تستلزم إعادة "استنبات النخب الروسية المستعربة".
هذه العوامل في تقديري مؤثرة بشكل كبير، وخطورتها تكمن في أنها غير ملموسة، ولكن تأثيرها محسوس في حالة الفتور التي تشوب العلاقات "الروسية الخليجية".
في المقابل، يدرك الجميع خطورة المرحلة الدولية الراهنة، ويعترف الجميع بأهمية كل طرف للطرف الآخر، وواقعيًا كل منهما لا يرى الآخر بديلاً استراتيجيًا لاتجاهاته الاستراتيجية الأخرى، ولكن علاقتهما ضرورة مرحلية وليست مجرد تكتيك. إن جدوى "المرحلية" ونجاعتها تقود إلى مسار "الاستراتيجية النوعية"، وهذا يستلزم عددًا من الإجراءات، منها:
من الجانب الخليجي: تكوين "أمانة عامة مساعدة" في الأمانة العامة لمجلس التعاون، تختص بالشؤون الروسية، وتُعنى بملف العلاقات والحوار الاستراتيجي "الروسي الخليجي".
من الجانب الروسي: إنشاء إدارة متخصصة في وزارة الخارجية الروسية تعنى بدول الخليج العربية، يرأسها سفير سابق في دول المنطقة، بهدف تعزيز التفاهم والتواصل المباشر. وتوسيع نطاق العلاقات "الروسية الخليجية" لتشمل دول آسيا الوسطى (أوزبكستان وكازاخستان وطاجيكستان وقيرغيزستان وتركمانستان)، بالإضافة إلى أذربيجان نظرًا لأهميتها الاستراتيجية ومواردها الطبيعية، ولوجود قواسم مشتركة مع الجانب الروسي يمكن توظيفها لخدمة المسار "الروسي الخليجي"، وأيضًا لأسباب موضوعية أخرى.